النهوض بالإعلام التقليدي يمر عبر نموذج تقنين مبتكر قادر على مواكبة المعطى الرقمي

(بقلم .. عادل بلمعلم)

تواجه وسائل الإعلام التقليدية، التي ماتزال تعمل وفق دفتر تحملات محدد يرسم لها خارطة الطريق، واقعا جديدا ظهرت معه مهن جديدة بفاعلين جدد، على غرار “المدون” أو “المواطن الصحفي” اللذين لا يخضعان لأي خط تحريري أو مقص رقابي. كما أن منصات البث والنشر أصبحت كونية لا تعترف بالحدود.

نمط الاستهلاك تغير بدوره، فلكل جيل أدواته، وقناعاته، وخصائصه الناجمة عن عوامل اجتماعية، واقتصادية، وسياسية. فالتلفزيون والإذاعة ظلا الوسيلتين المؤثرتين في جيل الخمسينيات حتى الثمانينيات، أما “الفيسبوك”، و”اليوتيوب”، و”تويتر”، و”سنابشات”، فقد أضحت الوسائل المناسبة لمخاطبة جيل الألفية، وبالتالي لا يمكن تجاهل هاته الأدوات، والوسائط في بث الرسائل الإعلامية.

ولعل من أهم القضايا الجدلية التي طبعت السنوات الأخيرة سؤال التأثير الكبير للإعلام الجديد في توجيه دفة الرأي العام مقابل “عجز” نظيره التقليدي، الذي أصبح مدعوا إلى اللحاق بالركب، واعتماد خارطة إعلامية جديدة بأدوات متجددة قادرة على رفع تحديات العهد الرقمي.

إن مساحات الإعلام التقليدي، مجسدا في الإذاعة والتلفزيون والصحافة المكتوبة، تتآكل في خارطة الإنتاج الإعلامي، نتيجة التطور المتواصل للتكنولوجيا الرقمية، وأساليب إنتاج الخبر والمعلومة وتدويرهما، الأمر الذي يستدعي حتما تطوير منتجات صحفية الكترونية رديفة، ومتكيفة مع الوضع الجديد، على غرار ما انخرطت فيه وسائل الإعلام الغربية التي استثمرت في قطاعات أخرى منها المجال التكنولوجي للتعويض عما فقدته من العوائد الإعلانية الكبيرة.

كما انخرطت في تطوير منتجات صحفية تفاعلية متجد دة يتم تغذيتها على مدار الساعة بالمعلومات والأخبار الجديدة، بالإضافة إلى وضع محتوى منو ع من الإعلانات، والمواد التسويقية، والألعاب الرقمية.

وبهذا، يغدو من الضروري التفكير في إنشاء بوابات خبرية رسمية تعمل على مدار الساعة لبث أحدث الأخبار والمعلومات، حتى تحتوي مشكلة فوضى مصادر المعلومات. وفي هذا الصدد، يجدر التوقف عند مبادرة وكالة المغرب العربي للأنباء إلى تقديم خدمة “sos fake – news” لمواجهة الأخبار الزائفة المنتشرة على الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.

ومن هنا تبرز أهمية وضرورة تقنين الإعلام في زمن الرقمنة، ومساعدة الإعلام التقليدي على تطوير أدواته في أفق تحقيق انتقال سلس وسليم إلى المنظومة الرقمية. وقد تعالت في الآونة الأخيرة، الكثير من الأصوات المنادية بضرورة تعزيز تدبير وتقنين المشهد الإعلامي في المغرب، بالنظر إلى حجم التحديات والمخاطر التي ينطوي عليها التحول الرقمي، سواء على المستوى السيادي أو الديمقراطي أو الاقتصادي.

وكشفت الندوة الدولية التي نظمتها الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري مؤخرا بالرباط، حول موضوع “تقنين وسائل الإعلام في منظومة رقمية، نقالة واجتماعية؛ متطلبات التأقلم ورهانات إعادة التأسيس”، عن وعي أصحاب القرار بضرورة ملاءمة الممارسات والسياسات العمومية، مع الواقع الجديد الذي تفرضه التكنولوجيا الجديدة، لحماية المصالح الوطنية وتجنيب المجتمع التهديدات التي ينطوي عليها هذا التحول.

وفي هذا الصدد، قالت رئيسة الهيئة، لطيفة أخرباش، في افتتاحها لهذا اللقاء العلمي، إنه “وأمام حجم وسرعة وعمق التحولات الناجمة عن الثورة التكنولوجية الرقمية، لم تعد هيئات تقنين الإعلام الوحيدة التي تعيش وضعية استنفار وتأهب. فقبلها، تساءل فلاسفة وعلماء اجتماع وأخصائيو العلوم العصبية، عما إذا كان الولوج إلى الأنترنيت واستعمالها، قد أدى إلى بزوغ شكل جديد للوجود الإنساني، والذي يمكن أن نصطلح عليه الوجود الرقمي”، مشيرة إلى أن هيئات تقنين الإعلام والاتصال في انشغالاتها واهتماماتها، “ليست في منأى عن هذا التساؤل الغني بالمعاني والدلالات، بل يمكن اعتبار هذا التساؤل مرجعا ومصدر استلهام لها. لأن للتقنين مرامي وأهدافا ديمقراطية بحتة”.

ويكمن التحدي الكبير اليوم في إقناع الشباب بالإقبال على الإعلام التقليدي عبر استعمال الشبكات الاجتماعية والتطبيقات، وهذا لن يتم إلا بالاستعانة بجيل جديد من الشباب يمكنه أن يتواصل مع هذا الجمهور المستهدف بلغته وأسلوبه، وبالتالي الإجابة على انتظاره. عدا ذلك، سيخلف هذا الشكل من الممارسة المهنية الإعلامية موعده مع رياح التغيير.

وفي سياق متصل، أكدت لطيفة أخرباش، أن هيئات التقنين منكبة على هذه القضايا عبر تقنينها لمضامين وسائل الإعلام المسماة كلاسيكية، وهي “مدعوة بالنظر للزحف الرقمي على المنظومات الإعلامية، إلى مراجعة مقارباتها وتجديد مناهجها وإعادة ترسيم مجالات عملها”.

وتساءلت رئيسة الـ”هاكا” عما إن كان الحل الأنجع هو التخفيف من صرامة التقنين، مقابل تشجيع وتقوية التقنين الذاتي والتقنين المشترك؟، مشددة على أن الديمقراطية لا يمكن أن تشتغل بطريقة سليمة بدون مواطنين مطلعين وعلى بينة بفضل وسائل إعلام، جديدة أو كلاسيكية، حرة، تعددية وأخلاقية.

وبهذا، يتعين على هيئات التقنين تركيز كل الجهود على وضع نموذج تقنين متجدد قادر على مواكبة المعطى الرقمي الجديد، وملتزم بدعم حرية التعبير والقيم الديمقراطية للتعددية، وتعزيز حقوق الإنسان والعيش المشترك.

Facebooktwittergoogle_plusredditpinterestlinkedinmail